مجلد 17 عدد 17 (2016): المجلة العلمية المحكمة العدد: 17
الميزان: هذه الأداة الإلهية الوجود، الإنسانية التصنيع، لها دللت متعددة تغطي مساحات واسعة في كافة المجالت، الدينية، الأخلاقية، القانونية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، وال... من هذه الأداة استقت الكلمة الذهبية (التوازن)، التي تدل، هي الأخرى، على كل فعل نبيل وشريف ورفيع، يرفع من كرامة الإنسان ويضمن له الطمأنينة، والسكينة، والسلام، ويبعد عنه كل منغصات الحياة.
ولما كان العالم يقوم، في الأساس، على التنازع في الرغبة في الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ وقهر وإذلال القوي للضعيف، فإن توازن القوى الدولية هو المعادلة الذهبية أو السحرية، التي تحد من نزوع الدول القوية نحو استغلال وقهر الشعوب، وتكبح جماح شهواتها لاستباحة كرامة ودماء المقهورين، وتعمل على ضمان السلم والأمن الدوليين.
وكما هو معلوم، فقد مرت عملية توازن القوى الدولية، منذ مطلع العصر الحديث وحتى يومنا هذا، وفي مدى زمني يتجاوز القرون الأربعة، بست مراحل، على النحو الآتي:
- مرحلة الاستعمار الغربي (اختلال توازن القوى) من عام 1500م- 1917م- 417 سنة.
- مرحلة إرهاصات توازن القوى (الاتحاد السوفيتي) (1917- 1945).
- أدركت دول الغرب بفطرتها الاستعمارية، النازعة لقهر واستعباد الشعوب واستغلالها، أن الأيديولوجية الناشئة (الاشتراكية) ستكون معول هدم حقيقي لوجودها في الدول المستعمرة، وأنها ستعمل على استنهاض الشعوب المقهورة وتدفعها للتحرر والانعتاق من نير الاستعمار. فوجدت ضالتها في الصحوة الإسلامية التي ظهرت في مصر في عشرينيات القرن الماضي، تحت اسم الإخوان المسلمين، باعتبارها الإيديولوجية المناهضة للأيديولوجية الاشتراكية، فعملت على احتوائها وتغيير مسارها.
- وعندما عجزت بريطانيا من القيام بمهامها تجاه جماعة الإخوان المسلمين، عهدت بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت، هي الأخرى، فيها ضالتها، وازداد الأمر تعقيداً عندما تعززت علاقتها (أمريكا) بالمملكة السعودية. وكما هو معلوم، فإن الدول القوية، لا تكتفي بالمصالح الاقتصادية والسياسية التي تحققها من خلال علاقتها بالدول، التي تدور في فلكها، بل تعمل، من خلال أجهزة استخباراتها بدراسة البنية الثقافية والتاريخية لتلك الدول حتى تضمن بقاءها واستمرارها فيها، فوجدت بغيتها في الفكر أو المذهب الوهابي، الأكثر مغالة في آرائه الفقهية، فلديها أيديولوجية بجناحين، الإخوان والوهابية، قوية يمكن أن تستخدم في المستقبل فأبقتهما في غرف التحنيط السياسي حتى يحين موعد استخدامه الذي سيتم الإشارة إليه لاحقاً.
- البداية الفعلية لتوازن القوى الدولية (1945 - 1960).
- بروز الاتحاد السوفيتي كقوى في الساحة السياسية الدولية بأيديولوجية مناهضة لدول الاستعمار.
- تشكيل عصبة الأمم المتحدة، المنوط بها ضمان تحقيق الأمن والسلم الدوليين عن طريق حماية سيادة واستقلال الدول الأعضاء.
- بدء دعوات التحرر من الاستعمار والرجعية.
- استمرار عملية توازن القوى الدولية (1960-1985). في هذه المرحلة انقسم العالم إلى معسكرين تقريباً، المعسكر الرأسمالي الاستعماري المناهض لتحرر واستقلال الشعوب، وتدور في فلكه القوى الاستبدادية والرجعية في العالم. والمعسكر الثاني هو المعسكر الاشتراكي الداعم لقوى التحرر والاستقلال في العالم. عمل هذا المعسكر على الحد من غطرسة وتغول دول المعسكر الرأسمالي، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية.
- دخل الطرفان في حرب باردة استمرت لأكثر من عقدين، كل من المعسكرين عمل على تقليص تمدد نفوذ الآخر في العالم، ولكن الخطاب الرأسمالي كان أكثر تأثيراً في وجدان عامة شعوب العالم الثالث. وشعوب المنطقة العربية على وجه الخصوص، وتمكنت المؤسسات الاستخباراتية الغربية، وعلى رأسها أمريكا، من إخراج الأيديولوجية السياسية الإسلاموية (الإخوان والوهابية) من غرف التحنيط السياسي، وعملت على إحيائها واستخدامها لسد العدو الأيديولوجي (الاتحاد السوفيتي).
- فقدان توازن القوى السياسية الدولية (1985-2010). شهدت هذه المرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، وخضوع كل العالم، ومن في فلكه، لسيطرة القطب الواحد (الولايات المتحدة الأمريكية)، ودخل العالم في نظام جديد، أُسمي بالنظام العالمي الجديد، وبرزت إلى العلن تداعيات فقدان توازن القوى، فأصبحت أمريكا هي من يضع المعايير الأخلاقية والسياسية للعالم، وهي حامية الحرية، وهي المصدر الحصري للديمقراطية، وهي من يقرر أي من دول العالم يحق له البقاء وأي منها يجب أن يختفي من الساحة السياسية الدولية، لقد أصبحت أمريكا، وهذا الأنكى أنها أصبحت في آن واحد؛ القاسي والجلاد، فهي ليست بخافي على أحد؛ فما تريده يكون وما تحلم به يتحقق. ومن هذا كله، أن دول الاستعمار القديم (دول أوروبا الغربية)، أسلمت قيادها لأمريكا، وأصبحت، كدول الرجعية والاستبداد في المنطقة، المفتقرة لأبسط صور القوة والتأثير، تسير خلف الولايات المتحدة، ذليلة منكسة، عديمة التأثير الجيوسياسي في العالم.
- انعكس هذا الواسع الدولي السياسي المفتقر لتوزان القوى العالمية، بظلاله على احترام المجتمع الدولي، المتمثل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لذاته، وأصبح فاقداً لأبسط القواعد المنظمة لوجوده وعمله، وأصبحت هيئاته ومنظماته تباع في سوق النخاسة.