مجلد 15 عدد 15 (2015): المجلة العلمية المحكمة العدد: 15
يحفل الأدب بتسميات متعددة لدول الاستعمار القديم والدول المستعمرة. من هذه التسميات دول العالم المتقدم ودول العالم المتخلف، ثم استبدلت التسمية الأخيرة بوضع كلمة "النامية" تجاوزاً محل كلمة "المتخلف". كذلك، تشمل التسميات دول الشمال ودول الجنوب والعالم الثالث، ومنطقتنا الناطقة بالعربية تقع ضمن دائرة الدول المتخلفة أو دول الجنوب أو الدول الفقيرة.
وبغض النظر عن التسميات أو الصفات السياسية والاقتصادية التي تصنف المجتمعات على أساسها، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها: المثقفون – سواء في المجتمعات الشمالية المتقدمة أو المجتمعات الجنوبية المتخلفة – هم الفاعل الرئيسي في نمو وتغير المجتمع أو في إعاقة نموه وتغيره. وهذا ما يميز مثقفي المجتمعات الغربية عن مثقفينا، كما سيتبين.
بدأ تحرر مجتمعاتنا الناطقة بالعربية من الاستعمار منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وشهد النصف الثاني من القرن العشرين أمرين: اتساع دائرة التحرر، وتقسيم مجتمعاتنا إلى دول أو مجتمعات متحررة تقدمية متطلعة إلى الديمقراطية والمساواة، ومجتمعات رجعية كهنوتية استبعادية.
ومع مرور الزمن، تراجع زخم مجتمعات التحرر والتقدمية وسارت في منظومة المجتمعات الرجعية الكهنوتية الاستبدادية والاستبعادية. لكن المنظومة الثقافية المشيعة بقيم التحرر والتقدمية، التي نشأت عليها أجيال النصف الثاني من القرن العشرين، لم تتراجع. فبرز على ساحة هذه المجتمعات كوكبة من المثقفين (الحزبيين) المنادين بالحرية والمساواة وعدم الاستعباد. توزع هؤلاء المثقفون على كل ألوان الطيف السياسي: أحزاب دينية، اشتراكية، بعثية، ناصرية، وغير ذلك من التسميات.
كنا نعتقد جهلاً أن هؤلاء المثقفين هم أمل شعوبهم في الخلاص من الاستبداد والاستعباد بما يحملونه من قيم الحرية والمساواة. لكن اتضح وبجلاء تام، بعد ما عُرف بالثورة العربية، أن الهدف الحقيقي المتجذر في وعي ووجدان المثقفين هو الحصول على السلطة، لا لخدمة المجتمع وتحقيق الحرية والمساواة، ولكن للاستمتاع بما تحققه لهم السلطة من ثروة ونفوذ. وتكشف ذلك باستعدادهم للتحالف مع عدوهم التقليدي – ما كانوا يطلقونه عليه في أدبياتهم بالاستعمار والرجعية – ضد مجتمعاتهم. والشاهد على هذا ما يدور في الساحة اليوم، حيث أثبتت الأحزاب وأثبت هؤلاء المثقفون أنهم على استعداد تام للقضاء على مجتمعاتهم وشعوبهم في سبيل الحصول على السلطة، فظهر مصطلح سياسي جديد هو "التقاسم والمحاصصة"، كل يريد جزءاً من الكعكة.
ثقافة التقاسم والمحاصصة هذه هي ما تفرق بين المثقف في مجتمعاتنا الناطقة بالعربية وبين المثقف في مجتمعات الشمال. الأول حر غير متكل ولا متواكل على السلطة ونجح في تغيير مجتمعه والارتقاء به. أما الثاني فهو صناعة السلطة معتمد عليها فاقد لحريته واستقلاله. لهذا تجده يعيش في حالة اغتراب دائم، يقول ما لا يفعل، فهو معول هدم وتخريب، ولا يمكن الاعتماد عليه، فهو أصل وسبب انتكاسة المجتمع. ليس هذا وحسب، بل أن أحزابنا ومثقفينا تحكمهم عقلية العصابات القائمة على النهب والاستبعاد.
ويحزنني أن أنهي هذه الافتتاحية بالقول إن العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين هو أول عقود الأخلاق الجديدة القائمة على الارتهان والمذلة والخنوع لدول الاستعمار والرجعية التقليديين. هذه الأخلاق الجديدة هي ما دفع الباحثين والكتاب إلى العزوف عما يدور في الساحة الناطقة بالعربية. يلاحظ القارئ هذا بجلاء تام من خلال ما يحفل به هذا العدد من المجلة، حيث عالجت هذه المواضيع قضايا مختلفة ومتنوعة ولا تصب في إطار واحد.
رئاسة التحرير